طلعت مصطفى العواد (مصر)
انتظار المدير العام أشعل القلق . الكل يدقق في أوراقه ، ليتوارى بعيدا ، تحاشيا لسانه السليط إلا الأستاذ أحمد. لم ترقبه الأعين سألوا عنه وإذا به غائص أسفل قاع جبل الورق . لم يسمع سوى صوت يهمس :أين هي؟ أين هي؟
قالوا: ماذا تريد؟ قال: ورقة مهمة.
أشار عليه أحدهم: عليك بالمخزن. وعند الذهاب إليه استقبلته رائحة تزكم الأنف. تزحزح خطوتين إلي الخلف، لكن حاجته إلى الورقة زجت به داخله. العفن منشور هنا وهناك ، أجولة كثيرة ملقاه بلا نظام ،عقود من السنين تركت بصماتها عليها . لا شك أن البحث سيكون مضنيا. بدأ بالجوال الأول ورقة ورقة ، ولكن بلا فائدة .. بالثاني... بالثالث ... لا ثمرة من هذا التعب .
الغبار العفن سلب دافع بحثه عن الورقة، أحس بخدر رقيق ، جلس ساندا ظهره بجوال مازال قيد البحث. تساقطت عليه الأوراق المتهالكة ، تاريخ قديم ، كلما وقع نظره على واحدة منها عادت ذاكرته إلى الوراء. شريط الذكريات يمر أمام عينيه بانفعالات مختلفة ، من حزن وفرح وضيق وانشراح وظلم وعدل . فجأة لمحت عيناه ثلاث صور صغيرة مرقت من ثقب في الجوال ، ثلاثة تلاميذ كان أستاذا لهم منذ ثلاثة عقود ، انتبه قائلا: يا لها من مفاجأة .
الصورة الاولى للحسيني . في منتصف العام الدراسي الثاني انقطع عن الدراسة . سأل عنه وجده ساحبا لحمار روث الجاموسة متجها إلى الحقل ، إنه يعمل أجيرا لأحد الأغنياء. لكن ما السبب؟ كان الحسيني الأول في دروس الحساب . كان عليه أن يبحث عن السبب ، علم أن والده تضخمت بطنه. كبده الذي تليف لم يتركه إلا عظاما نخرة . باتت والدته ساهرة تفكر كيف تدبر القوت لأطفالها.
فلم تجد إلا الحسيني يعمل أجيرا تاركا المدرسة إلي الشقاء المبكر ، قال لنفسه : تلميذ نابغة سيكون له شأن كيف يتحول إلي أجير سائق حمار.
فاحتضن الحسيني وتكفل بتعليمه أما والدته فقد كلف زوجته تعليمها الحياكة .
الصورة الثانية للسقا. كان والد أصم وأبكم. السقاية هي مهنته ، لا يعيش إلا على فضلات كسر الخبز، كان السقا يجلس في مقعده مكسور العين يواري نفسه بركن الفصل . ثيابه مزركشة برقع ملونه . تلاحقة سياط ألسنة أترابه. تغزه في خلاياه. ولم يكن أمامه إلا أن ينكب على كتبه هاربا من كل شيء.
أما الصورة الثالثة ، فقد رآها تحدق في وجهه وتموج كالبحر الهائج ، تذكر صاحبها حامد وما فعله والده (سعادة البيه الكبير) عندما أعطاه خمسة من عشرة في الأملاء . انقلب نظام المدرسة وعم الرعب الجميع قال له أحدهم: ألم تخف على نفسك ؟ قال الآخر: انتظر ما سيحدث لك.
قال لهم : هذا مستواه.
قالوا: نعرف .. ولكن أباه "بك" كبير.
قالوا له: أنت محول للتحقيق.
الصور الثلاث مرصوصة واحدة تلو الأخرى عشرات السنين مرت ، ترى أين هم الآن؟
الصمت يعم المكان. هدوء حذر لم يألف من قبل حفيف أقدام وأصوات متواترة ، سعادة المدير العام يقف أمام المخزن وهو يتأمله ، انتصب الأستاذ واقفا . على جبينه حبات من العرق المترب ، يمد كفه التي تحمل الصور الثلاث .
قال الأستاذ أحمد : من ؟.. لا أصدق .
يقول له المدير العام: هل تذكرني يا أستاذ ، أنا تلميذك السقا.
يقول الأستاذ : لا أصدق .. انظر ها هي صورتك في يدي وأنت بالصف الثاني.
إلى اللقاء مع القصة التالية ( أحلام ثقيلة)